الجمعة، 20 فبراير 2015

قلب الأم - لأبي القاسم الشابي

قلب الأم - لأبي القاسم الشابي

يا أيها الطفلُ الذي، قد كانَ كاللحن الجميلْ

والوردةِ البيضاءِ تعبقُ في غيابات الأصيلْ

يا أيها الطفلُ الذي، قد كان في هذا الوجودْ

فرِحاً يناجي فتنة َ الدنيا بمعسولِ النشيدْ

ها أنتَ ذا قد أطبقتْ جَفنيكَ أحلامُ المنونْ

وتطايرتْ زمرُ الملائِك، حولَ مضجعكَ الأمينْ

ومضتْ بروحِكَ للسماءِ، عرائسُ النورِ الحبيبْ

يحملنَ تيجاناً مذهّبة ً، من الزهر الغريبْ

ها أنتَ ذا قد جللتكَ سكينة الأبدِ الكبيرْ

وبكتكَ هاتيكَ القلوبُ، وضمّكَ القبرُ الصغيرْ

وتفرّقَ الناسُ الذين إلى المقابرِ شيّعوكْ

ونسوكَ من دنياهمُ، حتى كأنْ لم يعرفوكْ

نسيَتكَ أمواجُ البحيرةِ والنجومُ اللامعهْ

والبلبلُ الشادي، وهاتيكَ المروجُ الشاسعهْ

حتى الرفاقُ فإنهمْ، لبثوا مدىً يتساءلونْ

في حيرةٍ مشبوبةٍ، أينَ اختفى هذا الأمينْ؟!

لكنهمْ علِموا بأنكَ، في الليالي الداجيهْ

حملتكَ غيلانُ الظلامِ، إلى الجبال النائيهْ

فنسوكَ مثلَ الناس، وانصرفوا إلى اللهو الجميلْ

بينَ الخمائلِ والجداولِ، والروابي والسهولْ

ونسوا وداعةَ وجهكَ الهادي ومنظركَ الوسيمْ

ونسوا تغنيكَ الجميلَ بصوتكَ الحُلو الرخيمْ

ومضوا إلى المرج البهيج، يطاردونَ طيورهُ

ويزحزحون صخورهُ، ويعابثونَ زهورهُ

كلٌّ نسوكَ ولم يعودوا يذكرونكَ في الحياةْ

والدهرُ يدفنُ في ظلام الموتِ حتى الذكرياتْ

إلاّ فؤاداً ظلَّ يخفقُ في الوجودِ إلى لقاكْ

ويَودُّ لو بذلَ الحياةَ إلى المنيةِ وافتداكْ

فإذا رأى طفلاً بكاكَ، وإن رأى شبحاً دعاكْ

يصغي لصوتكَ في الوجودِ ولا يرى إلا بهاكْ

يصغي لنغمتكَ الجميلةِ في خرير الساقيهْ

في رنةِ المزمارِ، في لغو الطيور الشاديهْ

في ضجةِ البحرِ المجلجلِ، في هديرِ العاصفهْ

في لجةِ الغاباتِ، في صوتِ الرعودِ القاصفهْ

في نغيةِ الحملِ الوديعِ، وفي أناشيدِ الرعاةْ

بين المروجِ الخضرِ، والسفحِ المجللِ بالنباتْ

ويراكَ في صورِ الطبيعةِ، حلوها وذميمها

وحزينها وبهيجها، وحقيرها، وعظيمها

في رقة الفجرِ الوديعِ، وفي الليالي الحالمهْ

في فتنة الشفق البديعِ، وفي النجومِ الباسمهْ

في رقصِ أمواج البحيرةِ، تحتَ أضواء النجومْ

في سحرِ أزهارِ الربيعِ، وفي تهاويل الغيومْ

في لمعة البرقِ الخفوقِ، وفي هوّي الصاعقهْ

في ذلة الوادي، وفي كِبْر الجبالِ الشاهقهْ

في مشهد الغابِ الكئيبِ وفي الورود الغاويهْ

في ظلمةِ الليلِ الحزينِ، وفي الكهوفِ العاريهْ

أعرفتَ هذا القلبَ في ظلماءِ هاتيكَ اللحودْ

هو قلبُ أمّك، أمكَ السكرى بأحزان الوجودْ

هو ذلكَ القلبُ الذي مهما تقلبتِ الحياةْ

وتدفـّعَ الزمنُ المدمدمُ في شِعاب الكائناتْ

وتغنـّت الدنيا وغرّدَ بلبلُ الغاب الجميل

سيظل يعشق ذكرياتك، لا يملُّ ولا يميلْ ْ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق