بسم الله الرحمن الرحيم
أسئلة أصبحت تدور في عقول البشر بشكل غريب جعلتني أبحث عن ردود علمائنا الأفاضل في أمر علة الخلق :
1) لماذا خلق الله عز وجل الدنيا ومن عليها والآخرة وهو تعالى يعرف من سيكون كافراً ومن سيكون مسلماً وقد خلقنا تعالى وهو كذلك؟
2) إن الله يعلم مصير كل إنسان قبل أن يخلقه ، هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار. فلماذا خلق الله الإنسان إذن؟
3) لماذا لم يخلقنا الله كاملين غير خطاءين؟ لماذا خلقنا ليبلونا ويمتحننا ثم يعذبنا إذا لم نؤمن وحتى لو آمنا وأسلمنا فسوف يعذبنا لا محالة بذنوبنا (وإن منكم إلا واردها) لأن (كل ابن آدم خطاء)
4) مادام الله خلقنا لعبادته فلماذا خلق الجنة والنار .. كان ببساطة جعلنا مثل الملائكة
5) إذا كان الله تعالى يعلم من سيدخل النار فلماذا خلقه؟؟ هل ينسجم هذا مع الرحمة الإلهية؟؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فقد خلق الله الحياة الدنيا لحكمة ذكرها في كتابه حيث قال:
{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور} [الملك:2].
فهذه الحياة هي دار ابتلاء حيث يبتلي الله عباده بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فمن صدق بالرسل وعمل بما في الكتب كان من أهل الجنة ومن أهل السعادة ومن كذب كان من أهل الشقاء وأهل النار.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يعمله الناس أهو أمر قد قضي وفرغ منه أم أمر مستأنف ، فقال بل أمر قد قضي وفرغ منه .
فقالوا : ففيم العمل يا رسول الله ؟
فقال: “اعملوا فكل ميسر لما خلق له “.
وقد قال الله تعالى:
{إنَّ سعيكم لشتّى ، فأمّا من أعطى واتّقى وصدَّق بالحُسنى فسنيسّره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسّره للعُسرى} [الليل: 4-10].
فعلى كل أحد أن يعمل ويبحث عن مواطن الهداية ويدعو الله أن يرزقه الثبات على الدين، وأن يعلم أن الله تعالى قد خلق الخلق وهو يعلم أرزاقهم وآجالهم وما هم عاملون ، ونحن نرى أكثر الناس يستشكلون أمر السعادة والشقاوة ، ولا يستشكلون أمر الرزق ونحوه ، وهي من باب واحد من جهة خفائها عن الخلق وأن علم الله قد سبق فيها.
والواجب أن نثق بحكمة الله وعدله ، وأنه لا يعذب أحد بغير ذنب استحقه وأنه يعفو عن كثير. وقاعدة ذلك التسليم لأمر الله ، ما بلغته عقولنا وما قصرت عن فهمه ، وأن العجز والقصور والخلل فينا لا في حكمة الله تعالى.
وأما الاحتجاج بكونه سبحانه يعلم مصير كل فرد من مخلوقاته فهذا أمر طبيعي للإله القادر العليم.
وكيف يكون رباً للأشياء وهو لا يعلم مصيرها ولا ما تؤول إليه: فالإله الذي يجهل مستقبل مخلوقاته ولا يدري هل سيعصونه أم سيطيعونه ، ولا يدري من الذي سيعذب منهم ولا من سيرحم ، لا يستحق أن يكون إلها ، لعدم إحاطة علمه بما خلق ، والله سبحانه وتعالى علمه محيط بكل شيء من مخلوقاته ولذا قال:
{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] .
وهو الذي يفعل ما يشاء كيف يشاء لا دخل لأحد من خلقه في فعله جل وعلا ، قال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23].
وقد أخبرنا سبحانه أنه خلق الجن والإنس لعبادته وطاعته ، فقال:
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56].
فالحكمة القدرية الكونية هي ظهور حكمة الله وعفوه ورحمته وغضبه وسخطه وعذابه، وغير ذلك من صفاته سبحانه التي تتجلى في خلق الإنسان والجان على الحال الذي هما عليه من العقل والشهوة، حيث إن الله تعالى قد خلق .. الأحياء على ثلاثة أصناف:
1) فصنف ركب الله لهم عقلاً ولم يركب لهم شهوة ومُسيرين وهم الملائكة .
2) وصنف ركب الله لهم شهوة ولم يركب لهم عقلاً وهي البهائم .
3) وصنف ركب الله لهم عقلاً وشهوة ومُخيرين وهم الإنس والجن .
فمن غلب عقله شهوته فهو على رأس القائمة لأن الملائكة تطيع الله بجبلتها ولا تحتاج إلى مجاهدة الشهوة من أجل الطاعة بخلف الإنس والجن ، ومن غلبت شهوته عقله فهو أدنى من البهائم لأن البهائم لا عقل لها يحجزها عن الشهوة.
قال الله تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف:179].
.والفرق بين الأمر الشرعي والأمر القدري الكوني أن الأمر الشرعي قد يقع وقد لا يقع وهو فيما يحبه الله فقط، أما الأمر القدري فهو حتمي الوقوع ومنه ما يحبه الله ومنه ما لا يحبه.
ففي إيجاد الإنس والجن ، وابتلائهم بالتكاليف ، ثم مجازاتهم على أعمالهم ظهور لآثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ، فهو الخالق الرازق المحيي المميت ، وهو الرحمن الرحيم ، والحكيم العليم ، وهو ناصر المؤمنين ومخزي الكافرين ، وهو الديان الذي يحاسب عباده ويجازيهم على أعمالهم ، وهو المنتقم الجبار ، الذي ينتقم لأوليائه من أعدائه ، وهو الموصوف بكمال العدل والإحسان جل وعلا.
فالكفر والمعاصي والأخطاء وما يترتب عليها من عقاب راجعة إلى مخالفة أمر الله ونهيه ، وليس ذلك متعلقاً بالخلق والإيجاد ، فإن الله خلق الإنسان سميعاً بصيراً قادرا ً، كما قال تعالى:
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 1-3].
فخلق الله لخلقه وهدايتهم للهداية بيان وإرشاد ، فبين لهم طريق الخير وطريق الشر ، ثم مكنّهم من الاختيار ، فأي إكرام للإنسان فوق هذا الإكرام ، وأي احترام للإنسانية فوق هذا الاحترام، ولو أننا سألنا أكثر الخلق هل يحبون أن يكونوا في هذه الحياة مجبورين مقهورين لا يملكون إرادة ولا اختيارا ً، أو مختارين لهم القدرة والإرادة والاختيار .. لاختاروا الثاني .
فإذا كان الأمر كذلك فكلٌ يتحمل نتيجة سلوكه ، ويتحمل مغبة نقصه بعد أن خلقه الله كاملاً في أحسن تقويم ، قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
فكل حسنة تصيب العبد من صحة وعافية ورزق في الدنيا والآخرة فهي محض فضل من الله ، وكل سيئة تصيب العبد في الدنيا والآخرة فهي من نفسه ، لأنه قد أوتي قدرة على العمل ، واختياراً في تقدير الباعث عليه من درء المضار وجلب المنافع .
وقد قامت الأدلة القاطعة في خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان على حكمة الله وعلمه وتقديره ، كما قال تعالى:
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ… إلى أن قال: …ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9-12].
فإذا اعتقد المؤمن وأيقن بحكمة الخالق جل وعلا وعلمه المحيط وقدرته التي لا يعجزها شيء ، فيجب القول بموجب هذا الاعتقاد في كل ما يخلقه الله ويصفه ، وفي كل ما يأمر به ويوجبه، وفي كل ما ينهى عنه ويحرمه ، وإذا غابت عن العقل البشري الحكمة في جزئية من الجزئيات أو في صورة من الصور لم يكن ذلك مسوغاً لمخالفة تلك الأدلة القاطعة.
والله تعالى خلق الخلق على هذه الصورة لحِكَم جليلة ظهر لنا بعضها ولم يظهر البعض الآخر، وقد سبقنا إلى هذا السؤال الملائكة ، وأجيبوا جواباً قاطعاً لا يسعنا بعده إلا أن نتيقن حكمة الله ، ونطمئن إلى تقديره ، قال تعالى حاكياً عن الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
فإذا كانت الملائكة لا تعلم فمن باب أولى غيرهم ، وليس في منطق العقل أن يحيط المحدود علماً وهو الإنسان المحدود بحدود الزمان والمكان بالمطلق وهو الله تعالى ذو العلم المطلق والقدرة المطلقة ، أو يُعقِّب على حكمه. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41].
ونجد أن أصل هذه الشبهة الفاسدة هو قياس الخالق على المخلوق، وأنه يجب عليه فعل كذا وكذا، وأن الأصح له كذا وكذا ، ولا ينبغي له فعل كذا وكذا ، وهذا القياس أصل كل بلية ، ومنبع كل فساد ، فالخالق غير المخلوق ، والرب غير المربوب ، فكيف يقال له: افعل ، أو لا تفعل!
وهذا ما رده القرآن وأبطله ، فقال عن الله عز وجل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
وقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفتح:14].
فالمالك القدير له أن يفعل في مملكته ما يشاء ، وقد سبق أن أفعاله كلها حكمة ، وكلها عدل ورحمة ، فالاعتراض على خلقه وتقديره ضرب من الجنون.
وتصحيح للفهم الخاطئ للآية الكريمة:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71].
فليس المراد من الورود المكث فيها، أو أنه يصيب المتقين من عذابها وحرها ، وسواء قلنا إن الورود الدخول أو المرور ، فإن الله يقول وهو أصدق القائلين:
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72].
فيجعلها عليهم برداً وسلاماً، كما جعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً في الدنيا، فمن ضمن الله له أن يبعد عن النار لا يضره الورود، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا…} [الأنبياء:101-102].
وأما حديث: « كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون » رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصحح إسناده. فحق ؛ ولكن لا يلزم أن يُعذب كل خطاء ، فرحمة الله وسعت كل شيء ، والتائب من الخطأ حبيب الله ، كما قال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة:222].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110].
منقول عن الشبكة الإسلامية